ماذا لو عادت عجلة الزمن لتحملنا على مشارف مدينة الرسول الأكرم صلى الله عليه و سلم يوم فتح مسجده المبارك لوفد نجران النصراني ، و الذي كان بقيادة الأسقف عاقب و الأسقف سيد . كانوا ستين راكبا وفدوا في موكب مهيب في زيارة رسمية إلى المسلمين، فأحسنوا الضيافة و تحاوروا ثم أمر الرسول صلى الله عليه و سلم بإخلاء المسجد آذنا بذلك للنصارى بإقامة شعائرهم في مسجده في اعتراف ضمني بأحقيتهم في ممارسة ذلك.
كل من يتأمل هذه الجوانب من السيرة النبوية العطرة يدرك أيما إدراك مدى انفصام الإنسان عن إنسانيته و بعد فهمه عن الواقع ، لا سيما و أن الخطابات الدينية الهدامة في أكثر من موقع وجب التصدي لها و إفراغها من محتوياتها القائمة على النعرات الدينية و العرقية ، و أن عصر العولمة يقتضي العمل على بناء جسور بين الناس على اختلاف مشاربهم ، و أن على القائمين على تسيير زمر الناس سواء كانت قبائل أو شعوب أو أمم ، أن يتحلوا بالمسؤولية الكافية و يأخذوا على عاتقهم زرع وعي جديد ، بعيدا عن التوترات التي تقوم على أغراض سياسية ذات منحى توسعي . و لا يزال المركز الثقافي الإسلامي ببريشيا يعمل في هذا الإطار و يسعى لأن يكون له إطلالة على واقعه و تواصلا مع من حوله من مؤسسات حكومية و دينية ، حتى بات يحظى بحضور مهم على المستوى الجهوي و الوطني ، حيث عمل على خلق مناخ رائع مع من حوله ، و تواصله أصبح شموليا و يتميز بالانفتاح على كل مكونات المجتمع المدني و المجتمع السياسي.
شهد المركز الثقافي الإسلامي بمدينة بريشيا الجمعة 29 جوان 2018 زيارة الأسقف “بيار انطونيو تريمولادا” و التي تعد من أهم الزيارات التي شهدها المركز ، باعتبار أن الأسقف يعتبر ممثل دولة الفاتكان و هو كذلك صاحب أعلى منصب سياسي بمدينة بريشيا ، و لو أن حضوره السياسي يبدو باهتا لكنه ممن لا يرد لهم رأي و لا مشورة.
لم تكن هذه الزيارات موجودة قبل سنوات ، و هذا دليل على أن علاقة المؤسسة الإسلامية بالمدينة توطدت بتلك المسيحية ، بتوخي استراتيجية الانفتاح و التواصل ، عن طريق فتح الأبواب للسؤال لكل من أراد أن يستبين أمرا ، أو يوجه نقدا ، أو يطرح رأيا. بعد انتهاء صلاة الجمعة تقدم الأسقف و توجه بكلمة لها من الدلالة على حسن الجوار و التآزر ، كما نوه بضرورة التواصل و التعامل و الاحترام المتبادل . بعد الكلمة تم تكريم الأسقف بإهدائه درع بتوقيع المركز الثقافي ببريشيا تخليدا لهكذا زيارة مع إكليل من الزهور. في الأثناء حضر صلاة الجمعة مستمعا لما تلاه الشيخ أمين الحزمي من كتاب الله، ثم تناول الغداء مع ثلة من شباب الجالية و المشرفين عليها ، في استحسان تام ، و قد بدا على الأسقف الإرتياح لما لقيه من حسن استقبال و ضيافة.
ما نستطيع التنويه به و هو ما تطرحه الجالية الإسلامية في بريشيا هو العودة إلى الأصل ، العودة لما طرحته زيارة وفد نجران بكل قساوسته لرسول الله صلى الله عليه و سلم و ما قدمه هذا النموذج الحضاري للإنسانية من دروس ، و الذي خلده القرآن في قوله تعالى:( وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) هكذا هي الإنسانية في ثوبها البسيط ، بعيدا عن الكبر و الاستعلاء ، في حلة مكارم الأخلاق و زينتها. و يتواصل هذا البذل من المشرفين على مسار الجالية في بريشيا دون تقوقع و انغلاق ، بل دعاة على أعتاب الإنسانية ، فاتحين القلوب قبل الأبواب لكل من اقترب أو هم بالإقتراب.
صابر اليعقوبي
Comments are closed.