أحيانا يختلج في صدور الرجال ما لا تقوى عليه الجبال لأنه ليس كل ما يعرف يقال. قد تمر ساعة وقد يمر شهر وقد يمر دهر ولا سبيل لأن تلفظ ببنت شفة خشية ألا تجد آذانا صاغية و لا تزيد النفوس إلا تعبا.. ولكل نفس من القصص ما يرهقها ولكل قلب من المكابدة ما يتعبه.. وأحيانا لا يمكنك أن تبلغ أعمق المعاني دون أن تعاني ولا أن تستخرج المنحة إلا من قلب المحنة والكيّس هو الذي يصنع من ألم الماضي أملا في المستقبل. ولأن المجد الحقيقي مكانه ليس في مخادع الغواني فإن الرجولة لا يمكن أن تكون إلا في الجلد على العمل وحمل المسؤولية والصمود للعقبات الجسام.
:في هذا الإطار كان لنا لقاء مع “ميمو ناصر” أحد أبناء الجالية الذين في قصصهم عبرة وفي ماضيهم حُرقة وأجرينا معه الحوار الآتي

لو حدثتنا عن ظروف مغادرتك مصر قبل أن تحدثنا عن انطلاقتك العملية في إيطاليا؟-
غادرت مصر منذ 20 عاما سنة 1998 كانت البلاد في تلك الفترة تمر بظروف صعبة جدا لا توجد فرص عمل وسقف الطموحات عال عند الشباب. في الوقت ذاته كنا نرى ونلحظ عبور المغتربين الذين كان وضعهم يتغير بعد بضع سنين فهناك من يترك مصر معدما لا يملك شيئا وبمجرد عودته إلا ويستفيض في شراء العقارات وإنشاء المشاريع إلى جانب السيارات الفاخرة والجميلة بينما قد تقضي عشرين سنة تعمل وتكد هذا إذا وجدت عملا دون تحقيق الحد الأدنى من الطموحات.
كنا نرى المغتربين ونحادثهم ولكن من خلال رواياتهم بدت لنا الجنة من وراء البحار فأصبحت الهجرة هدفا ومن أجل تحقيق المراد والغاية وجب فعل كل شيء فأقدمت على اقتراض الأموال من الأصدقاء والأقارب والبنك وبعت قطعة أرض ثم نسقت مع المشرف على سفرنا باعتبار أن الأمر يتعلق باستخراج تأشيرة قانونية بمقتضاها يسمح لنا بدخول إيطاليا دون عناء ولكن محطة السفر لم تكن كذلك فقد توقفنا في ألبانيا ومنذ وصولنا وضعونا في أماكن ضيقة حتى كنا أشبه ما نكون بالسردين في علبه بعد أن جردونا من أموالنا وأوراقنا فأدركت حينها أن كل شيء له قيمة إلا أجسادنا وأرواحنا. وحان موعد السفر..
وانطلقت السفينة تنخر عباب البحر وكلما تقدمنا إلا وتعالت أصوات البشر بعد سقوطها في الماء رأيت الأطفال ترمى والأمهات تلحقهم والآباء كذلك وعلمت أن قيمة كل شيء هي قيمة الحاجة إليه فتراب شبر من الساحل هو في نظر الغريق أثمن من كل ذهب الأرض.. كنت كلما تدخلت لإيقاف القتل الممنهج تم تهديدي بالرمي في غيابات البحر لو لم ألتزم الصمت.
وصلنا إلى إيطاليا.. كنت أرى متاعب الناس وكنت أرى مدى قساوة الأوضاع التي يعيشونها وكأنني أستفيق من حلم ومن هناك بدأت أدرك أن الجنة التي كانت وراء البحر لا تعدو أن تكون إلا كذبة فكان الاصطدام مع الواقع لا أرى بوادر عمل ولا أسمع إلا عبارات الإحباط والمحبطين. في الوقت ذاته كانت أبواب طريق الإجرام قد انفتحت على مصراعيها وإغراءات المرابيح السهلة تتوالى ولكن الحمد لله كنت شبه محصن بوازع ديني قوي ومبادئ صلبة إضافة إلى مدرسة العائلة التي كانت قوية وحاضرة في كل خطوة.. كلها عوامل حالت بيني وبين سقوطي في شرك الغفلة والانسياق وراء الملذات الزائفة وأوصدت أقفال الانحراف بدون رجعة. وجدت في بعض أقاربي ومعارفي السند السليم والإحاطة اللازمة ولم ألبث طويلا حتى بدأت أعمل كغاسل صحون ثم تعلمت البيتزا فكانت الخطوات الأولى على درب النجاح العملي. في سياق آخر بدأت علاقتي تتوطد بمحيطي من الأشخاص الإيطاليين وبدأت تأخذ بعدا إنسانيا مهما جدا حتى كتب الله لي موعدا مع رجل ليس ككل الرجال كان في بادئ الأمر صديقا مخلصا ثم أصبح لي أبا وفي مرحلة أخرى شريكا في العمل ثم أبا لزوجتي وجدّا لأبنائي. هذه العلاقة في تقديري نسفت ما يروج في وسائل الإعلام وكتب التاريخ وبعض من نظريات الفلاسفة الهدامة التي ترى أنه لا يوجد في الشعوب المختلفة إلا التناحر والاقتتال وعشت مع هذا الرجل وعملنا مع بعضنا إلى أن وافاه الأجل منذ ستة أشهر وقد ترك في حياتي فراغا لا يوصف.
بعد ذلك التقيت بالصحفي “تشانو دزاناردي” وبحكم متابعتي للأحداث السياسية وأخبار الوافدين عبر البحر المتوسط وأعدادهم التي تزداد بمرور السنوات والمعاناة التي تتكررعلى قوارب الموت طرحت عليه أن يكتب قصتي وينشرها ككتاب يعبر المسافات ويصل إلى العالم العربي ليغيّر الأفكار الموروثة والمتداولة والتي تروّج للجنة المزعومة من وراء البحار. في البداية لم يستحسن “دزاناردي” الفكرة وحاول إقناعي أنّ الإيطاليين لا تروقهم مثل هذه القصص عن المهاجرين ولكنني أصررت أن نقوم بالمحاولة ليلقى هذا الكتاب نجاحا وأن تصل الرسالة التي كان هدفي منها توعويّ إلى كل الحالمين الذين يظنّون أنّ الهجرة ستقدّم لهم الورود على أطباق ذهبية وسرعان ما لقي كتاب “ناصر من مهاجر غير شرعي إلى مواطن إيطالي” نجاحا كبيرا رغم عدم قدرتي على نشره في مصر بعد أن تمّ رفض نشره رغم تعهدي بدفع جميع تكاليف النشر.

-من الاعتبارات الشائكة في حياة المهاجر هي مسألة الاندماج والقدرة على أن نكون عضوا في هذا الجسد الذي يسمى المجتمع. بالنسبة لك أين يكمن السرّ؟
الصدق.. هذا السر. الصدق والضمير.. الكثير منا يتعامل مع الإيطاليين على أنهم سذج وبعض الإيطاليين يتعاملون مع المهاجرين على أنهم فئة للاستغلال. لا يستقيم الوضع إلا إذا بلغنا مرحلة الاحترام المتبادل بين الضيف والمستضيف. علينا أن نحافظ على هويتنا بترك التقليد الأعمى فالاندماج لا يعني أنك تضع حلقة في الأذن وسراويل ممزقة وشعر طويل. علينا أن نكون فخورين بما نملك وما عندنا ونأخذ ما عند الآخرين.
هناك نجاحات على المستوى الفردي فلماذا لا توجد نجاحات جماعية بالنسبة للمهاجرين؟-
أنشأت جمعية للمصريين حتى يجتمعوا عليها ويعملون من خلالها من أجل الصالح الخاص والعام ثم نريد أن نكون كبقعة الزيت فوق الماء بخلق شبكة اجتماعية إيجابية مع إخواننا من تونس والمغرب والجزائر والاستفادة من بعضنا البعض وتبادل الأفكار ثم بلورتها في أرض الواقع
لماذا لم نصل الى هذه المرحلة ؟-
لا توجد فرص كما لم نسعى لإيجادها والعمل بمنهج صحيح على توفيرها وتحقيقها

-هل الدولة عملت بما فيه الكفاية لأجل المهاجرين ؟-
من جهة نجد أن الكثير من المهاجرين كان لهم تموقع سليم في المجتمع الايطالي حيث نرى اليوم مرشحين من أصول غير إيطالية تدخل المعترك السياسي وتفرض واقعا جديدا وبطبيعة الحال عملت الجولة على توفير الفرص لمن يسعى ويستحقها من جهة أخرى لم تضع الدولة مشروعا كاملا ومتكاملا من أجل خلق مناخ أفضل لنخبة الجالية وأبنائها الذين عملوا على أن يكونوا في موقع متقدم من حيث الفهم والإدراك ومن حيث البذل والعطاء ولذلك أعتقد أن الوقت حان لدراسة مشروع كامل متكامل يلبي حاجيات الجالية بما يكفله الدستور والقانون وبما يفرضه الحس الإنساني من أجل تعايش أفضل
“ميمو ناصر” من مهاجر غير شرعي الى مواطن ايطالي ماهي رسالتك للوافدين الجدد عن طريق البحر؟-
لا يسعني إلا أن أقول أنكم مسؤولون عن دينكم وبلدانكم تحلوا بالمبادئ والأخلاق واجعلوا دينكم سمحا نصب أعينكم لا داعي للعجلة والطيش وبالصبر تتحقق الآمال
حوار صابر اليعقوبي